طفل صغير يقبع على ناصية الطريق منذ زمن حتى أنك تحتار من فيهما احتل المكان أولًا..
يبيع الزهر، ولكن لمن؟ فمن يملك الآن أن يشتري!!
توالت الكثير من الأحداث مع مرور الزمن والطفل في مكانه لا يتغير، ومن يستقلون السيارات الفارهة بكعوبٍ عالية وسيقان عارية وقلوب من الرقّة والحنان خاوية؛ هل يلتفتون لهذا الصبى؟
ومن يمتطون الجياد وقد زينوا نواصيها باللؤلؤ والدر، ومن سرقوا الحضارات من أهلها، وزيفوا التاريخ ليضيفوا أسماءهم، ومن باعوا تاريخهم بحفنة تراب زائلة، ومن تاجروا بنوق عنترة ولم يدنون من شجاعته وإقدامه..
طواحين في العراء تفرم الهواء وتعجنه، ولا ناقة له في حروبهم ولا جمل..
موكبٌ حافل يمر، اكتست الشوارع له ونثرتْ على جبينها الزهر وأراقت العطر.. لفارس على ظهر حصانه ينتشي كفاتح لحصون الأناضول، وما فتح في زمانه سوى قلب عاهرة..
أو كان محمولًا على الأعناق في صندوق ليلقى به في حفرة، وتلحق به اللعنات والسباب..
ويلتفت الجميع ليهللوا للفارس القادم.
تطاول الحفاة على أسيادهم وثاروا، واكتسى العراة وبالأوراق قامروا، وأرسلوا رسلهم لينظّموا الطرقات ويعلقوا الشارات..
وعلى الناصية المقابلة علّقوا إحدى الشاشات ليبدو العالم قريةً واحدة، ومن خلالهم يهيمنوا ويرسلوا إشاراتهم؛ فيبدو البشر وكأنهم آلات في خط إنتاجٍ واحد، استسلمتْ وسلّمتْ عقولها على أبواب المدينة ليقال أنهم تحضّروا..
تأمل الصبيّ الشاشة العملاقة التي استحوذت على أفقه فكادت تبتلعه، حروبٌ ودخان أسود يملأ المكان، يبتلع الحياة ابتلاعًا.. من أجل برميل زيت أو بئر غاز تنطلق صافرات الإنذار ومن لم ينصاع فليلقَ نصيبه من الألغاز، وقبل أن يهمس بالحلول ينال العقاب على إعمال العقول..
يضيق صدر الصبي فيشيح بوجهه بعيدًا عن هؤلاء الأشباح الذين هاجموا كل أرض ولم يبرحوها إلا بعدما سلبوها الشباب والجمال..
حُفر النار في كل جانب وزاوية، وأطفالٌ مشردون دون لقب أو هويّة..
كل نصيبهم من الإنسانية حفنة طحين وشربة ماء تقف لتنتظرها بالساعات وربما الأيام ويقفوا ليصوروك وكأنك المسكين الذي طرق الباب.. وليسوا هم من سرقوك وألقوا بك خارج الزمان..
وفي ركن نما من جانب الشاشة ليستحوذ عليها كاملة شرذمة لا يوجد بينها انسجام، لم تتفق على لون أو صوت كل ما اتفقوا عليه قباحة المظهر، وملابس ممزقة سرقوها منك بعدما سخروا منها من قبل، وما كان يؤذيك من تعري جسدك النحيل في لفحة الصيف وانتهاك البرد صار زيّ التقدم والتحضر..
وصاروا كتل لحم معروضة لمن يدفع أكثر!
هزة قاسية جابت الأركان، وظهرت على الشاشة مجموعة خطوط ورسوم لم يفهمها الصبي قالوا عليها مؤشرات..
وبورصة يبيعون فيها الوهم، تُباع وتُشترى دون ثمن..
ولا يدخل جيبك قرشًا ولا دولار..
هذا الملعون الأخضر الذي يظهر على الشاشة في كل حين وقد أخرج لك لسانه -على هيئة أينشتاين- ليغيظك ويغيظ كل العالم؛ فما دام هو المسيطر فلا مفر..
وفجأة تأتي من جهة الشرق ريحٌ مختلفة، وتلوّح فيها راية أخرى تهدد أمن الدولار فيستشيط غضبًا ويتوعد الدنيا بقيامةٍ لا ينجو منها أحدا..
وتبدأ الهزات، وتنطلق الموجات.. تسونامي من نوع آخر.. فيروس أو غاز أيمّا كان هذا الجندي الجديد؛ فالحروب الآن لم تعد بارودًا ولا سيفا..
وتخلو الشوارع من المارة، وتخبو الأرواح منهارة.. أحان الآن موعد القيامة!!
اتركونا ننعم بفرصة أخرى، نعيد فيها ترتيب الأعمال..
ويبقى الصبي وحيدًا..
ليس في الأمر جديد، فلم يره أحدٌ من قبل ولم يكن له منهم نصيب بالكلام أو بالفعل..
وتبدأ عمليات التطهير والتعقيم.. تطهير الجماد والبدن، ولكن ماذا عن تطهير النفس والعقل!؟
في الحروب التقليدية نهاية كل معركة مهزوم ومنتصر، ولكن تبدو معارك الألفية الثالثة بشكل آخر..
فعلى الجميع دفع الثمن، والتلاعب بالقدر لا يمضي وكأنه لم يكن..
تنهار الأسهم على الشاشة العملاقة وتتحطم البورصات الواحدة تلو الأخرى، وهذا النفط الذي لهثوا خلفه يصبح بلا فائدة، وتبدو شربة الماء أثمن وأغلى من كل كنوزهم..
وها هم يلقون بذهبهم وأوراقهم فقد فشلت أن تحميهم من أسلحتهم..
وقد كانوا يلقونها تحت أقدام راقصة من قبل لينالوا منها نظرة..
يبتسم الصبي لأزهاره الذابلة، فطوال فترة بقائهم على الناصية لم تنقص منها ولا واحدة، فكيف لم يهتم بوجودها يومًا؟ وكيف لم يدر بينهم حوارات تخفف قسوة الرحلة!
0 التعليقات :
إرسال تعليق