بنظرة خلف عالم المرئيات وجدت الشيطان يتسول على المقاهي ويتسكع في الطرقات بين الأزقة والميادين، يبحث عن عمل أو وظيفة متواضعة ولو بأجر الحد الأدنى ، وبدأ يعرض مطالبه أمام عشيرته التي خرجت عن بكرة أبيها بمطالب فئوية ورؤى ضيقة محدودة؛ بعد أن ضاق بهم العيش في ظل بني الإنسان الذي لم يترك شيئا في هذا الزمن إلا فعله، وأوشك على الرحيل جامعا حقائبه، حيث شاء به القدر أن يوجد بين مجتمعات كثرت فيها الفتن والإضطرابات والأحزاب والتحزبات والجماعات والإئتلافات والفصائل التي لا نفع فيها ولا فائدة، وفضائيات تملأ السمع والبصر تدعو للرذيلة ونشر الفاحشة، وأصبح الإعلام فيها يشكل النسبة الأكبر في أسباب تدني المستوى الفكري والثقافي، بل أقول وربما لتهدم الأخلاق، وهذه المادة الإعلامية المقدمة ساهمت بدور كبير في تشكيل فكر جديد متحرر من كل القيود التربوية والأخلاقية، فتلك أفلام تعتمد اعتمادا كليا على المحتوى الجنسي إلى جانب الإباحية اللفظية، فما من موضوع فيلم إلا ويحتوي على أكثر من مشهد جنسي أو إشارة بطريقة أو بأخرى سواءا بألفاظ أو إيماءات أو صور عارية، أو بكيفية القيام بجريمة كاملة إلى حد ما كما في أفلام العنف، أو الإبداع في كيفية الخيانة الزوجية دون معرفة الطرف الآخر، وكذلك الأغاني المسفة والتافهة، والإعلانات الغريبة والمثيرة للأعصاب، وكأن سوء الأدب والأخلاق وركيك القول رخصة شرعية للعرض على الفضائيات اللعينة.
لقد أصبح شبابنا فريسة سهلة للإجرام والإنحراف في ظل ظروف إقتصادية صعبة تزداد يوما بعد يوم، فقد غابت الرقابة وعجزت عن القيام بدورها، وضاعت القيم، وبتقليد أعمى أصبحنا مجرد مرايا تعكس ما تراه دون وعي أو حتي مجرد تفكير فيما نقلده أو إدراك، فأصبحنا نعيش عصر الإفلاس الأخلاقي، ولا يخفى على الجميع هؤلاء الذين يتنقلون من قناة إلى قناة يبثون سمومهم يراءون بما لا يفعلون، يخربون بيوتنا صباح مساء يحركون نار الفتنة النائمة، فتلمع وجوه وتنطفىء أخرى، فهذا يمتلك الحقيقة المثلى والفريدة، وهذا يريد أن يضع اللمسات السحرية في دستور الأمة، وأيدى متآمرة تعبث من الداخل في جسد الوطن، وأيدي خارجية تمول بالدعاية والأموال، فأخذ أمن الوطن الغاصبون، ولوث شرفه المعتدون، وتغير ثوب العفاف على أيديهم بأرض تباع وتشترى بأبخس الأثمان، ورثوا أمواله ظلما وعدوانا، فتلك مشروعات تافهة ينفق عليها المليارات، وأخرى ترفع من قدر الأمة لا ينظر إليها أحد، بل تحارب وتؤد حية هي وأصحابها .
عبث وجدل وهراء، أصبح الكلام هواية .. ألفاظ تبارز ألفاظ، والنتيجة .. هواء .. ذوق تخلف، وإحساس تبلد، كذب وافتراء، وصدق توارى خلف الحجاب، أصبح النفاق فضيلة، والإخلاص والوفاء عملتان زائفتان .. وكأن المناصب في هذا العصر تشترط على من يشغلها أن يقدم كفاءة خاصة في كيف ينغص على الضعفاء معيشتهم، ويزيد من معاناتهم، ويقضي على أحلام البسطاء فيها؛ حتى ينعمون هم وحدهم بخيرها وبمرتباتهم التي فاقت حد الخيال، ويثبت مهارة فائقة في اقتلاع جذور الإنتماء للأوطان، وجودة في تدمير الطموح وقتل الحلم وبث روح التخاذل والإنهزامية داخل نفوس شبابنا، ونشر ثقافة الفوضى والتسلق على أكتاف الآخرين وسرقة أفكارهم، وتربية النشء على تعلم مناهج قمة في الغباء، لا تقدم فكرا ولا إبداعا ولا ترسم شخصية سوية متعلمة مثقفة، وإنما تبني قصورا من رمال حتى إذا واجه شبابنا مجال العمل تهدمت تلك القصور، واصطدم الجميع بالواقع المرسوم سلفا من قبل حكومات فاشلة، وتسلل إلى نفوسهم الإحباط ثم اليأس شيئا فشيئا، وبالتالي تتحول الشخصية العربية التي من المفترض أن تبني إلى قوة عظيمة في الهدم، فيظل المجتمع في سقوط دائم والعالم من حوله في صعود دائم، وهنا يتضاعف الفارق مع كل خطوة فيزداد التخلف تخلفا والتقدم تقدما .
أين الضمير الأخلاقي في التعامل مع مقدرات هذا الوطن؟ أم أنكم يا أصحاب السياسات ملكتم ملك فرعون وخزائن قارون، أم أن كثرتكم أعجبتكم! فوالله ما امتدح الله كثرة ولكن ذمهم ، والآيات القرآنية تشهد على ذلك: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" سورة يوسف (103) " يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون" النحل (83) "بل أكثرهم لا يعقلون" العنكبوت (63) "ولكن أكثرهم يجهلون" الأنعام (111) "ولكن أكثرهم لا يعلمون" الأعراف (131) "ولكن أكثرهم لا يشكرون" يونس (60).. وغير ذلك من الآيات العديدة والتي تؤكد تلك الحقيقة .. وبالتالي فالقليل يؤمن، والقليل يعلم، والقليل يشكر، والقليل يعقل، والقليل يفهم.. وأصبحنا نعيش زمنا عجيبا على الأرض، الشيطان فيه ليس له عمل يؤديه، فقد سلبه بنو الإنسان جميع حيله وألاعيبه ووظائفه ، فلم يجد من أمره إلا قارعة الطريق على قائمة العاطلين يتسول.
بقلم 👈شريف فتحي
0 التعليقات :
إرسال تعليق