وأنا فى رحلة الانتظار المملة عند الطبيب فى انتظار دورى للدخول ، استرعى انتباهى حوار دائر بين رجل ووالدته عن مدى حزنه وعدم رضائه عما يحدث فى حياته وحياة الكثير من أصدقائه ، وهنا تبدأ الأم الإنصات بإهتمام فيكمل الابن سرد ما يجول فى خلده ويحزنه مستفسرا وكأنه يتحدث لنفسه مستنكرا :: لما الغربة !! فتجيبه الأم دون أدنى احتياج منه لكلمات أخرى توضح ماهية السؤال ، فهى الأم التى تفهم أبنائها دون احتياج لمعرفة تفاصيل ما يوجعهم ، وقد حاز الحزن مكانة قوية على وجهها ، فتقول :: من أجل مستقبل أفضل لأبنائك ..فنظر الإبن لأمه بانكسار قائلا :: أى مستقبل هذا الذى أبنيه وحدى دون أنيس أو جليس يؤنسنى ويشعر بى !! أى مستقبل هذا الذى يجعلنى زوج وأب مع إيقاف التنفيذ !! أى مستقبل هذا الذى يجعلنى بالنسبة لأسرتى بنك متنقل فقط ، عابر سبيل ، ضيف ثقيل فى الأجازات القصيرة المتباعدة !! أى مستقبل هذا الذى يقطع لغة الحوار بينى وبين أولادى !! أى مستقبل هذا الذى يجعلنى أفقد كيانى كرب أسرة ، معيل لها ، راع لها صاحب الحكمة والنصيحة وقت اللزوم ، رقيب عليها من أى توجهات خاطئة !! فوجئت الأم وهى فى حالة صمت ووجع على فلذة كبدها ، بسيل من الأسئلة الإستنكارية التى تحمل فى طياتها جروح لن يستطع الزمن مداواتها بعد فوات الأوان...... فقالت له محاولة منها لتهدئته :: لما تعذب نفسك ! هذا حال الكثيرين ، فقال لها :: نعم أحيانا نحتاج للغربة لمعيشة أفضل ولكن إما يتغرب الرجل بأسرته معه ، وإما يتغرب لفترة ما ويرجع ، ولكن أنا والكثيرين من الرجال بعد الزواج والإحتياج للغربة لفترة ما لتحسين مستوى المعيشة ، وجدنا أننا نغرق فى دوامة استنزاف لحقوقنا كبشر فى احتياجنا لأسرنا وأولادنا حولنا ،فكلما نعزم الرجوع نجد أن سقف الطموحات عند الأبناء وأحيانا الزوجات يعلو ويعلو ، فيطالبوننا بتأجيل الرجوع عام وراء عام ، والطموحات المادية لا تنتهى ، وعند الرجوع النهائى ، نجد الزوجات قد تعودن البعد ونضب بحر المشاعر ، والأبناء نضجوا وكل على حدة فى منزله الذى تم تأسيسه من غربتى وشقائى ، وعندما نحاول الحوار معهم
أورؤيتهم ، فيقابلوا لهفتنا عليهم باعتذارات واهية بما ورائهم من مسؤوليات ، فنرجع من غربتنا فى شبابنا وأجمل سنوات عمرنا ، إلى غربة ووحدة أبشع فى منازلنا رغم وجود زوجاتنا ، ولكن لا يشاركنا إلا الصمت لأنه قد إنقطع الحوار منذ عمر غربتنا من أجلهم وبناء على رغباتهم ، فنرجع لبيوتنا ووطننا بعد شقاء السنين لنجد أن الجميع قد سحب رصيده من بنك غربتنا واستقل قطار الحياة فى رحلة ذهاب بلا عودة.... وما كان من الأم إلا أن أغرورقت عيناها بدموع الشفقة والحزن على شباب ابنها ومن يماثله ، وزواجه وخلفه الذى لم يستمتع بأى منهم نتيجة الطموحات الوهمية الهدامة لكل بيت...فى نهاية الحوار الذى جعل صدرى يأن لكل أسرة تهدم نفسها ورحمها نتيجة أطماع دنيوية ... قال الإبن المكلوم لوالدته :: كم تمنيت أن أظل وحيدا طوال حياتى دون زواج ، عوضا عن أن أكون زوج وأب فى خبر كان مع أسرة وهمية ...
وهنا قرائى الأعزاء يكون مرجوعنا دائما وأبدا لميزان الحياة الذى نتناساه ، بالرغم من ، إن تم استخدامه دائما فى كل أمورنا الدنيوية تستقم الحياة وتعتدل فى نصابها الصحيح ولكننا للأسف نتغافل عنه دائما ، فينتهى بنا الغرق فى بحار الهموم والاحزان ، ميزان الحياة الذى يتمثل فى أعظم دستور إلهى وضعه رب العزة مشرع القوانين الكونية ،،،،، حيث قوله تعالى فى كتابه العزيز {{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون }} ( النحل / 72 )...
وقوله تعالى :: {{ ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }} ( الحجرات / 13 )... ومن تلكما الآيتين نستوضح نظرة الإسلام فى مفهوم الأسرة وكينونتها وأهمية ترابطها ، لا تفككها ، فهى اللبنة الأساسية لبناء مجتمع سليم ودولة حقيقية وليس بالفرد وحده تقام المجتمعات .....
فنجد أن الإسلام قد وضع الأسرة فى إطار محدد سليم تحوطه غريزة الأمومة وعاطفة الأبوة وتكاتف الأبناء داخل الأسرة مع بعضهم البعض....
وهنا تستحضرنى قصة رجل حكيم شعر بدنو أجله ،فجمع أولاده وأمرهم بإحضار حزمة حطب قد شدت عيدانها معا بقوة ، وأمر الإبن الأكبر بكسر الحزمة فاستعصت عليه وفشل فى كسرها ،وأمر بمحاولة كل إبن على حدة بكسر الحزمة فلم يستطع أحد فعلها ، فأخذها الأب وفك رباط الحزمة وأعطى كل إبن عود ليكسره ،فانكسرت العيدان بسهولة وهى منفصلة فى أيدى الأبناء ، فقال لهم الأب الحكيم :: من هنا أوصيكم بالاتحاد سويا كما الحزمة المترابطة عيدانها سويا وبقوة ، فباتحادكم وترابطكم المتين سويا لن يهزمكم أحد ولن تهزمكم شدائد الدنيا ....
وهذا هو النظام الأسرى الصحيح ، فلا تفكك فيه ولا نتاج من الأبناء غير سوى نفسيا ، تربويا أو إجتماعيا ،،، فالزواج عبادة ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [[ من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله فى الشطر الباقى ]] / رواه الطبرى ...وهنا نجد أن للمرأة المسلمة أعظم دور فى الحفاظ على الأسرة وعدم تفككها وترابط الأب مع أبنائه ودوره الأساسى فى الدعم النفسى لهم فهو مقوم لسلوكهم ، مراقب لتصرفاتهم ، ليس كما نرى فى أيامنا هذه ، كل دور أغلب الزوجات هو تحفيز الأزواج على الغربة لتطلعات مادية أكثر حتى لو ميسورين الحال ، وتكون النتيجة فى النهاية زوج وأب مكلوم على حاله ، وأسرة متفككة ، كما روى بطل حكايتنا ....
ولذلك ندعو الأسر بأن يكون هدفها الأساسى فى الحياة تربية نشأ سليم نفسيا وأخلاقيا ، وليس غنيا بماله ومظهره الخارجى ، وهو فاقد لدواخله الأساسية ، فلا تكون المادة هى أكبر طموحاتكم لأبنائكم حتى لا ينتهى بكم المطاف فى غربة موحشة داخل أنفسكم نتيجة
0 التعليقات :
إرسال تعليق